بسم الله , والصلاة والسلام على رسول الله :
"مواقف متنوعة من كتاب جوانب من سيرة الإمام "
أذكر أن رجلاً قدم من الاتحاد السوفيتي بعد تفكك الشيوعية، فلما دخل على سماحة الشيخ سأل عنه، فقلت له: ها هو سماحة الشيخ سَلِّم عليه، فتردد قليلاً، فقلت له: أقدم، وسلم، سماحة الشيخ من أيسر الناس، فقال: لا أجرؤ على السلام عليه، فحاولت به مراراً حتى سلم على سماحته.
في يوم من الأيام وقبل وفاته بثلاثين عاماً حضر إلى مسجد؛ ليلقي فيه محاضرة، فلما شَعُر بأن المسجد مفروش بالحصير، وأن سجادةً قد وضعت له خاصة طواها بنفسه، وطرحها جانباً؛ لأنه لا يريد أن يتميز عن غيره.
ومن ذلك أن السيارة الممنوحة له ولأمثاله من قبل الدولة إذا انتهت مدتها، وأرادوا تغييرها بأحدث منها قال: وما عِلَّتُها فيقال له: انتهت مدتها؛ فماذا تريدون بدلاً عنها يا سماحة الشيخ ؟ فيَسْأَل: وما أنواع السيارات ؟ فيذكر له الكاديلاك، والمرسيدس، والفورد، والبيوك، وغيرها فيقول: والكابرس ؟ فيقال له: لا يليق بمقامك، فيقول: لماذا ؟ أليس القبر واحداً ؟!
طُلب من سماحة الشيخ تغيير أثاث بيته في مكة أكثر من مرة، وهو لا يستجيب، ويقول: لنا في هذا البيت ستة عشرة سنة، ولا ندري ماذا بقي من أعمارنا!.
ولما كثر عليه الإلحاح، وقيل له: إن أثاث المجلس غير صالح، وغير مناسب، وإن تغييره ضروري توقف كثيراً. وبعد إلحاح شديد أمر بتشكيل لجنة خماسية ذكرهم، وقال: اجتمعوا، واكتبوا ما ترونه، وحصل ذلك، وتم إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، وذلك في آخر أيامه رحمه الله .
وفي بيته الذي في الرياض دعت الحاجة إلى إيجاد بعض الغرف، فقلت له يا شيخ ! البيوت المعروضة للبيع في هذا الحي كثيرة، وأرى أن يشترى بيتٌ يكون لبعض العمالة الموجودة لديكم، وللضيوف، فتغير وجه سماحته، وقال: نحن مسافرون !!.
يعني السفر إلى الدار الآخرة.
ومن صور تواضُعِهِ تواضُعُهُ للمرأة والمسكين والسائل، وأذكر قبل ثلاثين سنة من وفاته أنني رأيته خارجاً من المسجد الجامع، فقيل له هناك امرأة تريد إجابة عن أسئلتها، فما كان منه إلا أن اتكأ على عصاه، وأصغى لها، وأجاب عن أسئلتها حتى انصرفت. !
ومن ذلك أنه في عام 1402هـ لما أصيب بمرض في القلب، ولازم الفراش في المستشفى التخصصي عدة أيام، وأجريت له الفحوصات اللازمة_أوصاه الأطباء بتناول بعض الأشياء، ومنعوه من بعضها ككثير الدهن، والملح، ثم وضعوا له طعاماً خاصاً.
فلما علم بذلك أبى، وقال: الذي يوضع لغيري يوضع لي، وما يحصل إلا الخير !.
وفي عرفة في حج عام 1418هـ كان جالساً في المصلى، ومئات الناس حوله، فجيء له بفاكهة مقطعة؛ لأن عادته في المشاعر في الحج أنه لا يأكل في الغالب إلا الفاكهة، والتمر، واللبن.
فلما وضع أمامه قال: أكُلُّ الحاضرين وضع لهم مثل هذا ؟
قالوا: لا، فقال: أبعدوه، وغضب.
حدثني بعض من عاش معه في الدلم لما كان قاضياً فيها أنه يهدى إليه من بعض جيرانه لبن فيقول سماحته: إن كان كثيراً فقدموه للضيوف، وإن كان قليلاً فلا أريد منه شيئاً.
وفي عام 1402هـ كان يلقي درساً في الحرم، فسئل: هل الأنثى مثل الذكر يحلق رأسها، ويوزن، ويُتصَدق بوزنه ورقاً ؟
فأجاب رحمه الله بقوله: ما عندي علم أَسْأَلُ إخواني طلبة العلم، وأخبركم إن شاء الله.
وأذكر أنه في يوم من الأيام اتصل شاب صغير بسماحة الشيخ، وقال: يا سماحة الشيخ ! الناس بأشد الحاجة إلى علماء يُفتُونهم، وأقترح على سماحتكم أن تجعلوا في كل مدينة مفتياً؛ ليسهل الاتصال.
فقال له سماحة الشيخ: ما شاء الله، أصلحك الله، كم عمرك ؟ فقال: ثلاثة عشر عاماً.
فقال لي سماحة الشيخ: هذا اقتراح طيب، يستحق الدراسة، اكتب إلى الأمين العام لهيئة كبار العلماء بهذا، فكتبتُ ما أملى به، ومما جاء في كتابه: أما بعد فقد اتصل بي بعض الناصحين، وقال: إنه يقترح وضع مفتين في كل بلد، ونرى عرضه على اللجنة الدائمة؛ لنتبادل الرأي في الموضوع.
ومما يذكر في هذا الصدد أن صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور محمد تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله وهو يكبر سماحة الشيخ بسنوات_قال قصيدة طويلة ماتعة في سماحة الشيخ رحمه الله .
وبعد أن نُشِرت تلك القصيدة في مجلة الجامعة السلفية في الهند كتب سماحته تعقيباً على تلك القصيدة مبدياً تكدره وامتعاضه؛ فإليكم القصيدة أولاً، ثم تعقيب سماحة الشيخ.
يقول الشيخ الدكتور الهلالي رحمه الله في أول شهر شعبان 1397هـ:
خليلي عُوْجَابي لنغتنمَ الأجرا
على آل باز إنهم بالعلى أحرى
فما منهمو إلا كريم وماجدٌ
تراه إذا ما زرته في الندى بحرا
فعالمهم جَلَّى بعلم وحكمةٍ
وفارسهم أولى عداة الهدى قهرا
فسل عنهمُ القاموسَ والكتُبَ التي
بعلم حديث المصطفى قد سمت قدرا
أعُمُّهموا مدحاً وإني مقصرٌ
وأختص من حاز المعالي والفخرا
أمامَ الهدى عبدَالعزيز الذي بدا
بعلم وأخلاق أمام الورى بدرا
تراه إذا ما جئته متهللاً
ينيلك ترحيباً ويمنحك البِشْرى
وأما قِرى الأضيافِ فهو إمامُه
فحاتم لم يتْرك له في الورى ذكرا
حليمٌ عن الجاني إذا فاه بالخنا
ولو شاء أرداه وجلله خُسرا
يقابل بالعفو المسيء تكرماً
ويبدل بالحسنى مساءته غُفرا
وزهده في الدنيا لو آن ابن أدهم
رآه ارتأى فيه المشقة والعسرا
وكم رامت الدنيا تحلُّ فؤاده
فأبدلها نُكْراً وأوسعها هَجْرا
فقالت له: دعني بكفِّك إنني
بقلبك لم أطمع فحسبي به وَكْرا
خطيب بليغ دون أدنى تلعثم
ومن دون لحن حين يكتب أو يقرا
بعَصْرٍ يرى قُراؤه اللحنَ واجباً
عليهم ومحتوماً ولو قرأوا سطرا
بتفسير قرآنٍ وسنة أحمدٍ
يُعمِّر أوقاتا وينشرها درّا
وينصر مظلوماً ويسعف طالباً
بحاجاته ما إن يخيِّب مضطرا
قضى في القضا دهراً فكان شُريحَه
بخرج أزال الظلم والحيف والقسرا
وكليةَ التشريعِ قد كان قُطْبَها
فأفعمها علماً فنال به شكرا
وجامعة الإسلام أطلع شمسَها
فَعَمَّت به أنوارُها السَّهْلَ والرعرا
تيمّمَها الطلابُ من كل وُجْهَةٍ
ونالوا بها علماً وكان لهم ذخرا
فمن كان منهم ذا خداع فخاسر
ومن كان منهم مخلصاً فله البشرى
ولم أر في هذا الزمان نظيره
وآتاك شيخاً صالحاً عالماً بَرَّا
وأصبح في الإفتا إماماً مُحَقِّقَاً
بعلم وأخلاق بدا عَرْفُها نَشْرا
وأما بحوث العلم فهو طبيبُها
مشاكله العسرى به أُبدلت يسرا
ويعرف معروفاً وينكر منكراً
ولم يخش في الإنكار زيداً ولا عمرا
وما زال في الدعوى سراجاً منوِّراً
دُجَى الجهل والإشراك يدحره دحرا
بدعوته أضحت جموعٌ كثيرةٌ
تحقق دين الحق تنصره نصرا
ألم نره في موسم الحج قائماً
كيعسوب نحلٍ والحشودُ له تترا
وما زال في التوحيد بدر كماله
يحققه للسامعين وللقُرا
ويثبت للرحمن كل صفاته
على رغم جهمي يعطلها جهرا
ويعلن حرباً ليس فيه هوادة
على أهل إلحاد ومن عبدالقبرا
وما قلت هذا رغبة أو تملقاً
ولكن قلبي بالذي قلته أدرى
فيارب مَتِّعْنَا بطول حياته
وحفظاً له من كل ما ساء أو ضرَّا
فلو كان في الدنيا أناس كمثله
بأقطار إسلام بهم تكشف الضرَّا
فيا أيها المَلْكُ المعظم خالدٌ
بإرشاده اعمل تحرز الفتح والنصرا
فقد خصَّه الرحمن باليمن والمنى
وآتاك شخصاً صالحاً عالماً برَّا
فأنت لأهل الكفر والشرك ضيغم
تذيقهموا صاباً وتسقيهموا المُرا
فلا زلت للإسلام تنصر أهله
وتردي بأهل الكفر ترديهموا كسرا
وحبَّبك الرحمنُ للناس كلِّهم
سوى حاسد أو مشرك أضمر الكفرا
وقد أبغض الكفارُ أكرَمَ مُرسلٍ
وإن كان خير الخلق والنعمة الكبرى
عليه صلاة الله ثم سلامه
يدومان في الدنيا وفي النشأة الأخرى
كذا الآل والصحب الأجلاء مابكت بكت
مطوقةٌ ورقاءُ في دوحة خضرا
وما طاف بالبيت العتيق تقرباً
حجيج يُرَجُّون المثوبة والأجرا
وما قال مشتاق وقد بان إلفه
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا
فيا أيها الأستاذ خذها ظعينةً
مقنعةً شعثاء تلتمس العذرا
فقابلْ جفاها بالقبول وأولها
من العفو جلباباً يكون لها سترا
وبعد أن نشرت تلك القصيدة في مجلة الجامعة السلفية في بنارس_الهند_أرسل سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله في 23/3/1398هـ تعقيباً إليك نصه:
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ عبدالوحيد الرحماني مدير مجلة الجامعة السلفية في بنارس_وفقه الله للخير آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فقد اطلعت على قصيدة نُشرت في العدد التاسع من مجلتكم لفضيلة الدكتور تقي الدين الهلالي تتضمن الغلو في المدح لي، ولعموم قبيلتي، وقد كدرتني كثيراً، فرأيت أن أكتب تنبيهاً للقراء، باستنكاري لذلك وعدم رضائي به.
وإليك ما كتبت برفقه راجياً المبادرة بنشره في أول عدد يصدر في المجلة.
أثابكم الله وشكر سعيكم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة، والدعوة والإرشاد<<<<يتبع >>>>>