يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات” يحمل دعوة لأهل العلم، ممن وسد إليهم تبصير الناس بما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم إلى القيام بواجب التصدي لهذا الأمر. أمر الدعوة إلى الله وإلى الطريق الذي يوثق علاقة المرء بخالقه، وإذا كانت العبادة التي اشتمل عليها الحديث ورتب عليها ذلك الجزاء الكريم أمرا زائدا على الفريضة وكانت الدعوة إليها أمرا مرغبا فيه حيث الوسيلة تأخذ حكم الغاية، كما أن الحكم يدور من علته وجودا وعدما، فقد حرم الله سبحانه وتعالى على العلماء كتمان العلم وفرض عليهم أن يبلغوه وأن يعملوا دائما على إذاعة ما يعملون في أبواب الخير خاصة ما يتصل بالحلال والحرام وما فرض الله من عبادات جعلها للمسلم زاده الذي لابد منه حتى يمضي به سفين الحياة إلى شاطئ السلامة وبر النجاة في دنياه على عين من الله والجزاء من خالقه وفي الآخرة حيث النعيم المقيم. ولذلك رأينا القرآن الكريم يكرم العلم ويمجد القائمين بتعليمه ويعلي من قيمتهم قال تعالى: “شَهِدَ اللّهُ أَنهُ لاَ إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ” فرفع العلماء إلى مصاف الملائكة كما قال: “يَرْفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”.
والخطايا جمع خطيئة وهي الذنب الذي يقع فيه الإنسان والمراد به هنا صغائر الذنوب والله تبارك وتعالى يقول “إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئَاتِ”.. روي أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك كأنه يسأل عن كفارتها فأنزل الله هذه الآية: “وَأَقِمِ الصلاَةَ طَرَفَيِ النهَارِ”.
فقال يا رسول الله أهي لي؟ قال النبي صلى الله عيه وسلم هي لمن عمل بها من أمتي.. ومعنى ذلك أن الذي قارفه السائل ليس فيه حد أو وعيد وإنما يكفره العمل الصالح من إسباغ وضوء وإقامة صلاة وإحسان في العمل، فذلك كله يطهر النفس ويزكيها من أثر الدنس الذي ألم بها، كما يكفرها اجتناب الكبائر.
والمراد بالدرجات درجات الجنة وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما في السماء والأرض”. ولا مانع بعد كل ما قدمنا أن تكون الدرجات الواردة في الحديث مراد بها صنوف العطايا وأنواع الكرامات وأبواب العمل وقهر الهوى والتوفيق للهدى في الدنيا والدرجات العلا في الجنان يوم القيامة بما وفق لأداء الفرائض والحرص على التزود من السنن والقربات رغبة في المزيد من إنعام الله وكرمه في الدنيا وفي الدرجات والمنازل التي أعدها الله للأصفياء المقربين في الآخرة.
وقولهم رضوان الله عليهم “بلى يا رسول الله” أي دلنا على ذلك فكلنا آذان مصغية وليس غيرك أحرص على غيرنا وما ينفعنا مثلك.
إتمام الوضوء
وقوله صلى الله عليه وسلم إسباغ الوضوء على المكاره تأكيد على أهمية الوضوء وقد جاءت آية المائدة مبينة فرائض الوضوء التي لا تصح الصلاة إلا بالقيام بها وتمامها وكمالها بحيث إذا تعمد ترك جزء من أي عضو من أعضاء الوضوء ولم يتدارك إتمامه بطل وضوءُه، ومن ثم تبطل صلاته، وفي الحديث عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال صلى الله عليه وسلم من توضأ فأحسن الوضوء فرجت خطاياه حتى تخرج من تحت أظافره.
وإحسان الوضوء يعني اشتماله على سننه وآدابه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وكثرة الخطى إلى المساجد” وذلك إنما يكون ببعد الدار وكثرة التكرار، وفي الحديث الصحيح أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا من محلتهم لمحل يقرب من المسجد فقال صلى الله عليه وسلم دياركم تكتب آثاركم وذلك لما للمساجد من منزلة خاصة في الإسلام إذ هي من بين بقاع الأرض قد اختصها الله بأنها بيوته وفيها يستقبل أضيافه وإليها يدعو أحباءه وأولياءه حيث يبسط لهم موائد رحمته ويغدق عليهم من سابغ فضله ووافر إحسانه وكرمه. وعن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر.
سعي حميد
وإذا كان السعي لطلب الرزق أمرا واجبا فإن السعي لما يقوى به الجانب الروحي ممثلا في أداء الفرائض وأولها الصلاة أمر ضروري للعبد كغذاء الجسم على سواء، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول مرغبا في كثرة الخطى إلى المسجد: “إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم”.
وقوله صلى الله عليه وسلم: “وانتظار الصلاة بعد الصلاة” أي الجلوس للانتظار هذا بعد أداء الصلاة الأولى منفردا أو جماعة، وذلك لدوام فكره واشتغاله بهذا المقصد الشريف، وتعلق قلبه به فهو دائم الحضور مع ربه والمراقبة له الأمر الذي يصرفه عن الاشتغال بشيء من متاع الدنيا وزينتها فضلا عن الوقوع في شيء يغضب الله عز وجل، ذلك إلى جانب ما يفيض الله عليه من إحسانه وإنعامه فترة لبثه في بيته ضيفا عليه سبحانه وهو الكريم الذي لا يقطع مدده عن عبده ما دام على حال من الطهارة والاشتغال بما يزداد به قربا من خالقه.
أفضل أنواع الرباط
وقوله صلى الله عليه وسلم: “فذلكم الرباط فذلكم الرباط” إشارة إلى أن الرباط الحقيقي الذي هو ملازمة الثغور لحفظ عورة المسلمين لا يستحق من الفضل ما يستحقه هذا الرباط الوارد في الحديث، لما في الرباط المشار إليه في الحديث من أعظم القهر.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح”. متفق عليه.
وفي هذا الحديث إشارة إلى ما روي في الأثر “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” أي رجعنا من جهاد العدو الذي يهدد مقدرات حياتنا بغيا وظلما إلى ما هو أخطر أثرا وهو جهاد النفس. غفر الله لي ولكم جميع الخطايا والذنوب .. وكل عام أنتم بخير