محمد بن طلحة ابن عبيدالله - السجّاد
قال تعالى:"وقضى ربك الا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احسانا" ..
لقد قرن الله حق الوالدين بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته. وجعل جزاء برهما مما يوف الى صاحبه في الدنيا من الاعمال بالزيادة في العمر، وكثرة في الرزق، وصلاح في الأبناء، ثم ينال الثواب العظيم في الأخره. وجعل عقوبة عقوقهما من العقوبات التي تعجـّـل لصاحبها في الدنيا. مع ما يدخر له من العذاب في الأخره.
لن أطيل عليك عزيزي القارئ بالحديث عن فضل الوالدين و جزاء حقوقهما وعقوبة عقوقهما. فهذا حديث ذو شجون يحتاج الى فصول بل مجلدات لا بضع كلمات على صفحات..
و إنما سأعود بك الى الوراء 1391 عاما. لتعيش معي قصة تشجي القلوب وتدمع الاعين. قصة ماهي الا صورة حية لـ بر الولد بوالده..
حتى ليخيل الي انه لو كان لنا ان ننظر للبر كما ينظر بعضنا بعضا عيانا.. فلن يكون الا السجّاد رضي الله عنه..
بطل قصتنا هو الصحابي محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي رضي الله عنه..
أمه حمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب بنت جحش (أم الحكم) رضي الله عنهم أجمعين.. وابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم اميمة بنت عبدالمطلب الهاشمية..
ووالده هو طلحة الخير..
لما وُلد أتى به أبوه طلحة الى النبي صلى الله عليه وسلم. فمسح النبي بيديه الشريفتين على رأسه ثم حنكه وسماه محمدا وكنـّاه بابي القاسم..
صار محمد غلاما وقد جـُبل على الطاعه والعباده والتقوى.. والعلم والكرم.. كيف لا وهو ابن طلحه الخير ..طلحة الفيّاض .. طلحة الجود .. وخالته ام الحكم..
فلما كبر واشتد عوده وصار شابا لـُقب بمحمد السجّاد لكثرة سجوده. فقد كان رضي الله عنه زاهدا تقيا قواما.. وكان اصحاب رسول الله صلى الله عليه و على آله يتبركون به و بدعائه..
حسن.. كانت تلك نبذة مختصرة جدا عن نسبه رضي الله عنه.. تقديم للقصة التي سأقصها الآن واعدك عزيزي القارئ أني لن أعلق بل سأترك الحكم لك.. لك وحدك..
أحداث قصتنا دارت أيام خلافة الامام علي رضي الله عليه .
فبعد وفاة عثمان بن عفان رضي الله عنه قامت فتن أدت الى معركة الجمل (التي سميت بذلك نسبة الى الجمل الذي خرجت عليه ام المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها)..
اخذ طلحة والزبير مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم اجمعين موقف المطالبة بدم عثمان وتطور الخلاف بينهم وبين علي كرم الله وجهه ..
حتى عزموا على القتال ثأرا لعثمان رضي الله عنه..
فنادوا يستنفرون للحرب.. وطلب طلحة من ابنه السجّاد الخروج معهم..
وهنا كانت الأزمة.. حيث انه هوى السجّاد مع علي رضي الله عنهما.. فاستنشد اباه ان لا يضطره للخروج..
على ان طلحه اصرّ عليه بالخروج..
حزن السجّاد كثيرا.. كيف يخرج ضد امير المؤمنين كرم الله وجهه.. كيف يخرج ضد من قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يبغضك الا منافق"..
وكيف يعق أباه فيرفض له مطلبه.. وقد اوصى الله بالوالدين احسانا وقرن طاعتهما بطاعته تعالى..
صار السجّاد بين حر نارين.. نار العقوق .. ونار الشقاق..
وهنا بدأت سعي الوسائط لاقناع طلحه.. فكلمه علقمة بن وقاص ..
قال له: انك خارج لقتال فخلّف وراءك ابنك محمد يقوم على اهل بيتك ان حدث من أمرك شر..
فقال له طلحه:اسأله ان اراد..
فما كان من علقمة الا ان جاء السجّاد محدثا يسأله في التخلف..
فقال له السجّاد: أكره ان اسأل الرحال عن ابي..
لقد كره رضي الله عنه ان يرفض طلب ابيه.. منعه عن ذلك قوله تعالى:"فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما"..
كره التخلّف ما لم يطلب منه اباه ذلك.. فهو يعلم برغبته في اصطحابه.. ولكن نفسه تواقه للامام..
علم علي رضي الله عنه بأمره .. فرقّ له.. ونهى اتباعه عنه قائلا: "اياكم وصاحب البرنس الاسود" يعني السجّاد..
وتأكد الخروج..
فخرج علي في 4000 من أهل المدينة فيهم 800 من الانصار و400 ممن شهد بيعة الرضوان مع المصطفى صلوات الله وسلامه عليه..ورايته مع ابنه محمد ابن الحنفية..
وخرج مع طلحة والزبير محمد السجّاد.. خرج رضي الله عنه لأرض المعركة مكرها مجبرا فقط امتثالا لطلب ابيه.. برا به حتى لا يقول لأبيه (لا)..
والتقى الجمعان بموضع قصر عبيدالله بن زياد (بالبصرة) في المنتصف من جمادالآخره يوم الخميس وكانت الواقعه يوم الجمعه..
و نادى منادي علي رضي الله عنه في جيشه:
أن لا يـُقتل مدبر، ولا يـُدقف (أي لا يجهز) على جريح، ولا يـُهتك ستر، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن..
و كان السجّاد ممن امسكوا بلواء الجمل..
فقال لعائشة رضى الله عنها يومئذ: يا أماه ما تامرينى؟؟
قالت: ارى ان تكون كخير ابني آدم ان تكف يدك..
فقرر كف يده..
و دارت رحى المعركة بين الجيشين.. ومحمد السجّاد يحمل الراية.. لم يقاتل ابدا ضد جيش الامام رضي الله عنهما.. فكان كلما اقترب منه جندي شاهرا سيفه ناشده: (حم لا ينصرون) .. فيتراجع عنه..
فهو مكره على الخروج.. ولا يقوى على الوقوف ضد امير المؤمنين..
يرى المؤمنين يقتل بعضهم بعضا ويعتصر لذلك قلبه الطاهر.. تأبى نفسه ان يكون ظالما .. وتأبى نفسه التولي..
وظل على حاله يحمل اللواء.. وكلما اقترب احدهم ناشده بـ (حم لا ينصرون)
وهكذا لم يقاتل ولم يقاتله احد..
حتى اشتد عليه رجل من جيش الامام (يقال انه المكعبر الاسدي) فسبقه بضربة رمح قبل أن يناشده فاصابه..
حينها..
****** رضي الله عنه صريعا يلفظ أنفاسه وهو يرددها (حم لا ينصرون.. حم لا ينصرون.. حم لا ينصرون)..
فتنبه قاتله..
عندها بكى .. حزنا.. ندما.. وألما
ينشد:
وأشعث قــــوام بآيــــــــات ربه ........ قليل الأذى فيما ترى العين مسلم ِ
هتكت لـــــه بالرمح جيب قميصه ......... فخر صريــــــــــعا لليدين وللفم ِ
على غير شيء غير أن ليس تابعا ......... عليا و من لم يتبع الحق يُـــظلم ِ
يناشدنى (حم) والرمح شـــــاجر ......... فهــــــــــلا تلا (حم) قبل التقدم ِ
واستمرت المعركة على اشدها.. والخسائر تقع من الطرفين على ان معظمها في صفوف طلحه والزبير..
سقط طلحة صريعا هو ايضا.. وانحاز الزبير مع من تبقى...
وانتهت المعركه وانتصر جيش الامام علي كرم الله وجهه..
ولكن حقيقة كأني بتلك المعركة لا تحتسب بهزيمة ولا بخساره ..
فكلا المعسكرين من المؤمنين..
كلا الطرفين خسائره جد كبيره..
أمرهم لله سبحانه..
وانقضى يوم الجمل .. وصاروا في ليلة ذلك اليوم ونام المجاهدون تعبا وأرقا .. الليل ساكن موحش بعد كل صليل تلك السيوف ودك حوافر الخيول..
وقام علي رضي الله عنه يصحبه مولاه وبيده شمعه .. يطوف بأرض المعركة يردد اللهم اغفر لنا ولهم..
يتصفح وجوه الجرحى والشهداء من الجيشين..
وقد أرهق جسده وقلبه معا..
حتى وقف على السجّاد رضي الله عنه وهو ملقا على الارض صريعا.. مضرجا بدمائه.. معفرا..
فاخذه بين يديه الكريمتين مدده على حجره ..ونفض عن وجهه التراب ثم احتضنه دامعا ..
وقال: هذا السجّاد... ورب الكعبه هذا الذي قتله بره بأبيه...خرج رضي الله عنه ضد الامام علي مكرها.. رغم هواه.. فقط برا بوالده.. فخط للبر تاريخا بماء الذهب..
لله درك ايها السجّاد. فأين نحن من برك؟!