السعادة والمشقة
فضيلة الشيخ العلامه أ.د. ناصر العمر حفظه الله
يخطئ بعض الناس فيظن أن المشقة قرينة الحزن والبؤس، وليس كذلك، فكل الناس في هذه الدنيا يناله نصيبه من الجهد والنصب، "لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ" (البلد:4)، ومع هذا الكبد قد يسعد الإنسان، أما شأن أهل الإيمان فظاهر، وقد قال بعضهم: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال، إنهم لفي نعيم! وقال الآخر: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
بل بعض أهل الكفر قد يحصل له شيء من السعادة، كما قال الله تعالى عن بعض الكافرين: "إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً" (الانشقاق:13)، وقال: "إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ" (المطففين:29)، وإن كان مآل سعادة هؤلاء إلى زوال، والمقصود التفريق بين السعادة والحبور والسرور وبين متاع الحياة الدنيا وزخرفها من مال أو جاه أو غير ذلك من الحسيات أو الأمور المعنوية المتعلقة بالدنيا.
وكما لا يلزم أن يكون الغني سعيداً ولا ذو السلطان، فكذلك لا يلزم أن يكون الفقير أو المريض أو الذي قل حظه من متاع الدنيا؛ الناصب فيها تعيساً بعيداً عن السعادة، فأسباب السعادة إذا كانت وفيرة جليلة لم تكدرها ما تستصغره النفس في مقابلها، ولهذا تجد بعض التجار يجلس في تجارته الساعات الطويلة، يكد ويسهر ويحسب ويجمع وهو فرح مسرور، رغم الجهد الذي يبذل لأن عائده يتجاوز ما بذله في تقديره.
فالسعادة مع الجهد والتعب ممكنة، وكل من أخذ بأسبابها في الدنيا فسوف تكون حياته كريمة طيبة سعيدة، وإن حصل ما يكدر ذلك الصفو فسرعان ما تعود المياه إلى مجاريها وتستمر الحياة على ما كانت عليه.
أما من ترك أسباب السعادة فحياته لا محالة مليئة بالقلق والتوتر والأحزان وألوان العذاب لما سوف يلقاه من المنغصات التي لا يملك ما يقوم لها.
وأعظم سبب من أسباب السعادة هو الإيمان بالله تعالى، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه قال الله تعالى: "أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ" (الزمر: من الآية22)، وقال تعالى: "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ" (الأنعام: من الآية125).
فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر، والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر وانحراجه، فنور الإيمان يشرح الصدر ويوسعه فإذا فقد هذا النور من قلب العبد ضاق، فلا يكاد يصبر صاحبه على شدة، فأقل بلاء يزعجه وينغص عليه عيشه.
أما المؤمن حق الإيمان فعجب له! إن أصابته سراء شكر الله عليها حمداً بلسانه واستخداماً لها في طاعة ربه طمعاً في السعادة الأبدية، فسعد بمغنمه سعوداً لا كسعد غيره.
وإن أصابته ضراء صبر، محتسباً الأجر المدخر ليوم هو أحوج ما يكون فيه لصبره على تلك الضراء.
أما الكافر فماذا يؤمل وماذا يرجو غير هذه الحياة، فلا غرو أن يضطرب أمره، ويضيق صدره فيها، فسنة الله في الحياة قاضية بوقوعه في شيء من الكبد.
بخلاف المؤمن الذي يعلم أن أمره كله له خير، وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح"، قالوا: وما علامة ذلك يارسول الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله"(1).
ومن كانت هذه حاله فلن يغتر بنعيمها ولن يأسى على رحيلها كلها فكيف ببعض متاعها.
جعلني الله وإياكم من السعداء، الذين عمرت قلوبهم بالإيمان والتقوى، أعظم أسباب سعادتي الدنيا والأخرى.